reconnaissanceresearch.com

التحديات النقدية في السوق السورية



في إطار سعي مركز ريكونسنس للبحوث والدراسات إلى متابعة الملف السوري، وانطلاقًا من التزامنا بتقديم رؤى تحليلية دقيقة حول القضايا التي تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن والاستقرار في المنطقة، نقدم في هذا التقرير تحليلًا موجزًا للتحديات النقدية والاقتصادية التي تواجه الإدارة السورية الجديدة بعد سقوط نظام الأسد.


يستعرض التقرير أبرز العقبات المالية، بما في ذلك أزمة السيولة الحادة، وتحولات السوق النقدي، والتداعيات المحتملة لاختفاء مبالغ ضخمة من الليرة السورية من التداول. كما يناقش السيناريوهات المتاحة أمام الحكومة الجديدة لمعالجة الأزمة، والتحديات المرتبطة بكل منها، مع تسليط الضوء على الدور الإقليمي في دعم الاستقرار الاقتصادي في سوريا.

 

أزمة السيولة وتغير معادلة النقد

تواجه الإدارة الجديدة في سوريا تحديًا اقتصاديًا بالغ الخطورة يتمثل في اختفاء مبالغ مالية ضخمة تُقدَّر بتريليونات الليرات السورية من التداول في الأسواق المحلية، مما قد يؤدي إلى تداعيات اقتصادية حادة.


قبل سقوط النظام، كانت الليرة السورية متوفرة بكميات كبيرة، في حين كان هناك شح في العملات الأجنبية نتيجة القيود الأمنية الصارمة التي فرضتها إدارة النظام السابق، والتي وصلت إلى حد تجريم التعامل بالدولار بعقوبات تصل إلى السجن لمدة سبع سنوات. أما اليوم، فقد انعكست المعادلة تمامًا؛ إذ أصبح الدولار متاحًا بكثرة، بينما باتت الليرة السورية شحيحة في الأسواق، مما أدى إلى أزمات متعددة، أبرزها:

 

 

1. تحسن غير حقيقي في سعر الصرف

أدى شح الليرة السورية إلى ارتفاع غير حقيقي في قيمتها مقابل الدولار. فقبل سقوط النظام، كان سعر الصرف يقارب 15 ألف ليرة للدولار، بينما يتراوح اليوم في السوق السوداء حول 10 آلاف ليرة للدولار. ومع ذلك، فإن هذا التحسن لا يعكس قوة حقيقية للعملة، بل هو نتيجة تراجع إيرادات الخزينة العامة بسبب انخفاض تحصيل الضرائب، وهبوط الاستيراد الرسمي، وعدم سيطرة الدولة على الموارد الطبيعية، وعلى رأسها النفط والغاز. كما أن الأسواق السورية تعاني من إغراق بالبضائع المهربة غير المجمركة، ما يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي.

 

2. شلل في القطاع الخاص

تسبب نقص السيولة في تباطؤ النشاط الاقتصادي، خصوصًا في القطاع الصناعي. فقد فرض المصرف المركزي قيودًا صارمة على عمليات السحب النقدي، إذ لا يُسمح بسحب أكثر من 10 إلى 50 دولارًا يوميًا بالليرة السورية، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية احتياجات المصانع والورش والشركات. وقد أكد عدد كبير من الصناعيين في دمشق وريفها توقفهم عن الإنتاج بسبب تجميد أموالهم في المصارف، مما حال دون قدرتهم على دفع مستحقات الموردين وأجور العمال.


ورغم وصول 300 مليار ليرة سورية جديدة، مطبوعة في روسيا، إلى المصرف المركزي عبر طائرات هبطت في مطار دمشق الأسبوع الماضي، إلا أن هذه السيولة لم تؤثر بشكل ملموس على الأسواق، إذ تحتاج سوريا إلى تريليونات الليرات لتغطية الطلب المحلي.

 

 

غياب الشفافية والمخاوف من انهيار العملة

لم تصدر الإدارة السورية الجديدة أي توضيح رسمي حول اختفاء الليرة السورية من الأسواق، مما زاد من الغموض والمخاوف. وتشير معلومات محلية إلى أن جهات إقليمية قامت بتهريب كميات ضخمة من الليرات السورية إلى خارج البلاد، ويُعتقد أن هذه الأموال تُجمع حاليًا في العراق. وهناك مخاوف من إعادة ضخ هذه الأموال في السوق السورية بكميات كبيرة خلال فترة قصيرة، مما قد يؤدي إلى انهيار سريع في قيمة الليرة وارتفاع التضخم، الأمر الذي قد يشعل اضطرابات شعبية، خصوصًا مع تسريح عشرات الآلاف من العسكريين والموظفين الحكوميين بتهم تتعلق بالولاء للنظام السابق أو الفساد.

 

الحلول المقترحة لمواجهة أزمة السيولة

أمام الإدارة السورية الجديدة مجموعة من الخيارات لمعالجة أزمة اختفاء الليرة السورية الأسواق، ومن أبرزها:


1. طباعة كميات جديدة من الليرة السورية

يمكن للحكومة الاتفاق مع روسيا، التي تولت تاريخيًا طباعة العملة السورية، لضخ كميات جديدة في السوق لتعويض النقص. إلا أن هذا الحل ينطوي على مخاطر كبيرة، خاصة في ظل الغموض حول مصير الأموال المختفية، والجهات التي تتحكم بها، وإمكانية ضخها مجددًا في الأسواق، مما قد يؤدي إلى موجة تضخم حادة وارتفاع الأسعار، وبالتالي اضطرابات شعبية.

 

2. ترميز الفئات النقدية الحالية وإلغاء العملة القديمة

يتمثل هذا الحل في إعادة ترميز الفئات النقدية المتوفرة حاليًا وإصدار أوراق نقدية مرمزة جديدة، مع إلغاء التعامل بالعملات القديمة. من شأن هذه الخطوة المساعدة في ضبط التضخم، والحفاظ على استقرار سعر الصرف، ومنع التلاعب بالسوق النقدي. لكن نجاح هذا الحل يتطلب إجراءات صارمة، مثل ضبط الحدود، تشديد الرقابة على السوق السوداء، وتنفيذ عملية التحول النقدي بسلاسة وعلى مراحل محددة.


3. إصدار عملة جديدة بفئات وتصاميم مختلفة

يمكن للحكومة السورية إصدار عملة جديدة بالكامل، مع إلغاء التداول بالعملة القديمة بشكل تدريجي عبر المصرف المركزي. غير أن هذا الحل يواجه تحديات كبيرة، أبرزها الحاجة إلى وقت طويل لطباعة العملة الجديدة، والتكلفة الباهظة لعملية الطباعة والتوزيع، مما قد يُشكل عبئًا إضافيًا على الاقتصاد الهش أصلًا.


4. التحول إلى أنظمة الدفع الإلكتروني

يمثل الدفع الإلكتروني حلًا استراتيجيًا يمكن أن يخفف من الاعتماد على النقد الورقي، إلا أن تحقيقه يتطلب تجاوز عقبات رئيسية، أبرزها العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا. ومن أهم الاحتياجات المطلوبة لإنجاح هذا التحول:

• تطوير منصة دفع إلكترونية حديثة يديرها المصرف المركزي.

• تحسين وتوسيع البنية التحتية للإنترنت في سوريا، والتي تعاني من ضعف شديد يحد من قدرة المواطنين على تبني أنظمة الدفع الرقمية.

 

 أهمية الدعم الإقليمي لمنع انهيار الاقتصاد السوري

لحماية الاستقرار الاقتصادي، تحتاج الإدارة السورية الجديدة إلى دعم عربي، لا سيما من دول مجلس التعاون الخليجي. إذ تزداد المخاوف من أن تكون جهات إقليمية، وعلى رأسها إيران وأذرعها في المنطقة، وراء اختفاء العملة السورية بهدف زعزعة الاستقرار وإفشال التجربة السورية الجديدة.

 

ولذلك، يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي تقديم الدعم عبر:

• تقديم وديعة بالدولار إلى المصرف المركزي السوري تعادل قيمة الأموال السورية المهربة، مما يسمح للمصرف بامتصاص أي كميات ضخمة من الليرة قد تُضخ في السوق، وبالتالي الحدّ من خطر انهيار العملة.

• المساعدة في تطوير أنظمة الدفع الإلكتروني عبر توفير الدعم التقني وتحسين بنية الإنترنت، مما يسرّع التحول نحو وسائل الدفع غير النقدي، ويقلل من الاعتماد على العملة الورقية.


الاستقرار السوري ضرورة إقليمية

لن يكون نجاح التجربة السورية الجديدة مجرد إنجاز داخلي، بل سيمثل تحولًا استراتيجيًا يحدّ من نفوذ “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، والذي يواجه تراجعًا واضحًا. ويجعل هذا النجاح من دعم سوريا في هذه المرحلة ضرورة إقليمية لضمان استقرار المنطقة ومنع نشوء تهديدات اقتصادية أو سياسية أو أمنية مستقبلية.

 

في المقابل، فإن أي فشل في عملية التحول السوري قد يدفع البلاد إلى دوامة جديدة من العنف والصراعات، مما سيمنح إيران فرصة لاستعادة نفوذها الإقليمي. كما أن ذلك قد يؤدي إلى استئناف تجارة المخدرات، لا سيما صناعة وتصدير الكبتاغون، التي نجحت الإدارة السورية الجديدة في تفكيك جزء كبير منها خلال الأشهر الأخيرة.

 

إضافة إلى ذلك، فإن تصاعد العنف قد يؤدي إلى موجة نزوح جديدة، تهدد دول الجوار وأوروبا باضطرابات إنسانية وأمنية، مما يزيد من تعقيد المشهد الإقليمي والدولي.

 

في ظل هذه المعطيات، يبدو أن إدارة الأزمة النقدية في سوريا ستكون اختبارًا حاسمًا لقدرة القيادة الجديدة على تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وكسب ثقة الداخل والخارج، ورسم ملامح مستقبل البلاد.

 

Previous Post
Next Post
Menu