رئيس شؤون الشرق الأوسط في «لو فيغارو» جورج مالبرونو يكتب لمركز ريكونسنس
بعد نحو ستة شهور من اندلاع ثورة طالبت بإسقاط النظام، تمكنت السلطات الإيرانية من خنق الاحتجاجات باستخدام القمع الشديد. فالمظاهرات تراجعت بشكل ملحوظ في جميع أنحاء البلاد، وفشلت في حشد مختلف الطبقات الاجتماعية الإيرانية، في حركة إضرابات واسعة، كان يمكن أن تهز الجمهورية الإسلامية بسبب افتقارها التنظيم والزعامة.
وبالنظر لعدم وجود أي بديل سياسي، وضعت الغالبية العظمى من الإيرانيين البالغ عددهم 80 مليوناً، المشكلات الاقتصادية التي يواجهونها، على رأس الأولويات، لكن رغم ذلك يظل الغضب جاثماً في نفوس الجماهير، التي يمكن أن تحتج مجدداً، في حال تنفيذ إعدامات أو تسجيل حالات وفاة رمزية مثل مهسا أميني، التي أشعلت الاحتجاجات في 16سبتمبر الماضي.
وإن نجح النظام في الحفاظ على الحكم على المدى المتوسط، فإن استدامته غير مؤكدة، في ظل وجود فكرة واحدة تطارد الجميع بمن فيهم القياديون والكثير من الإيرانيين، ألا وهي: خلافة القائد الأعلى آية الله علي خامنئي (83 عاماً)، إذ إن وفاته يمكن أن تكون «مُغيّر اللعبة» في طهران.
لكن في أي اتجاه؟
غالباً ما يتم الحديث بانتظام عن سيناريو استيلاء «الحرس الثوري» (الباسداران) على السلطة، بالطريقة ذاتها التي يمكن من خلالها للباسداران أن يسيطر على البلاد في حال فشل النظام في مواجهة المحتجين. فأي «انقلاب» سيصاحبه إضعاف لدور رجال الدين، الذين ينتقدهم الإيرانيون، وستبرز حينها ديكتاتورية عسكرية، يمكن أن تمنح مساحة قليلة للشارع. فـ«الحرس الثوري»، لم يكن راضياً على سبيل المثال، على سلوك الشرطة الدينية، التي كانت وراء أزمة سبتمبر، التي تعتبر الأسوء في تاريخ النظام منذ 44 عاماً.
وأما في ما يتعلق بمرحلة ما بعد خامنئي، فقد طُرحت فرضية ثلاثي قوي لشغل منصب «المرشد»، وهي طريقة لتخفيف سلطته أمام الباسداران الذين يتحكمون في أكثر من نصف الاقتصاد وفي الملف النووي والصواريخ البالستية. وفي مثل هذا السيناريو، سيكون عليهم أيضاً مواجهة المجتمع المدني الذي يربطهم بالسلطة الدينية، التي لم يعد يريدها.
فمنذ بضعة أعوام، شرعت قيادات الباسداران وخصوصاً جهاز الاستخبارات المدعوم من قبل نجل المرشد الأعلى مجتبى خامنئي، في عرقلة خلافة المرشد خامنئي. في البداية من خلال «تطهير» أجهزة الإدارة التي يسيطر عليها منذ عشر سنوات، خصومهم الإصلاحيون، ثم عن طريق إطلاق عملية تنظيف لمجتمع الأعمال الذي كان يؤيد الإصلاحيين، الذين استفادوا من عمليات التناوب على المناصب التي حصلت في الإدارة.
وبدأت عمليات التطهير هذه، بعد انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق النووي في 2018، والعقوبات التي فرضها على إيران. وكانت عمليات التطهير، تهدف أيضاً إلى تحضير انتخاب ابراهيم رئيسي لرئاسة الجمهورية وحتى خلافة المرشد الأعلى، لكن الرئيس رئيسي الذي ظهرت محدودية فعاليته، يبدو خارج السباق في مرحلة ما بعد خامنئي.
وهكذا شيئاً فشيئاً، تكلّس النظام حول نواة صلبة من المتشددين، مدعوماً من قبل أجهزة الاستخبارات والحرس الثوري، الذين سيطروا على الجهاز الأمني بأكمله.
بالإضافة إلى ذلك، يعمل الباسداران، الذي يسيطر منذ 2019 على الجيش النظامي (أرتش)، عن كثب مع كل المؤسسات القوية المرتبطة بالمرشد الأعلى. كما ملأ الفراغ، الذي خلفته الشركات الأجنبية، بعد أن غادرت إيران في أعقاب الانسحاب الأميركي والتهديد بفرض عقوبات عليها.
من جانبه، تمكن ابن المرشد الأعلى مجتبى الذي يعمل بالتشاور مع والده، من السيطرة على الباسيج، وهي الميليشيات المكلفة بقمع المتظاهرين.
وفي النهاية، نجح المروجون لهذه النواة في السيطرة على الدوائر الاقتصادية والسياسية وإضافتها إلى مهمة الجوسسة التي يحكمون القبضة عليها.
والهدف هو أن يصبح أي تغيير في هرم السلطة في إيران مستحيلاً أو صعباً جداً على الأقل.
وهناك أيضاً تفصيل مهم فاجأ حتى أولئك الذين تم سؤالهم خلال عمليات التطهير. وفي هذا الشأن يقول مراقب للساحة الإيرانية «عكس الماضي، لم يعد النظام يدعم غير الثوريين، أي الايرانيين الذين لا يظهرون إشارات عداء صريحة تجاهه. النظام لا يريد سوى الثوريين». ويضيف هذا الخبير: «في النهاية، هدفهم هو الوصول إلى نموذج على النمط الصيني للانفتاح الاقتصادي المحلي من دون استثمارات غربية حقيقية ومع علاقات متوترة ومقبولة مع القوى الكبرى وانغلاق سياسي داخلي».
وفي ما يتعلق بتعزيز سلطاته داخل البلاد، فإن «الحرس الثوري»، الذي لم يستطع الرئيس السابق حسن روحاني مواجهته، يمثل دوماً تهديداً خارج إيران، خصوصاً في لبنان عن طريق «حزب الله» وفي العراق من خلال الميليشيات الشيعية المخلصة له.
وإن كانت إيران لن تتخلى أبداً عن «حزب الله»، الذي يمثل جوهرة تاجها، ويسمح لها بالتأثير على إسرائيل، فإن إبرام اتفاق لبناني - إسرائيلي أخيراً حول تقاسم الحدود في البحر الأبيض المتوسط لاستغلال الغاز، يُظهر أن طهران تعرف كيف تكون براغماتية. وهذا الاتفاق- الذي وافق عليه حليفها «حزب الله» - هو في الواقع اتفاق سلام، لم يطلق عليه الاسم فقط، مع أرباح مالية منتظرة للطرفين.
وأما على المدى المتوسط، فستبقى مصلحة إيران الاستراتيجية هي انسحاب القوات الأميركية من الشرق الأوسط، وبشكل أساسي من العراق - وهو ما يحدث بالفعل - ومن سورية، الأمر الذي سيعتمد على مستقبل المفاوضات بين أنقرة ودمشق.
بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، فإن سيطرة الحرس الثوري على السلطة في إيران، تعزز الرغبة الإيرانية التي تتكرر عدة مرات، في تقاسم أمن الخليج مع دول مجلس التعاون الخليجي، على حساب الوجود العسكري الأميركي.
وفي ظل هذه الظروف، يمكن أن تُدْفَعَ دول مجلس التعاون الخليجي، إلى البحث عن وسائل لحمايتها في أماكن أخرى. ولكن في مواجهة التهديد المستمر، فإن عسكرة السلطة الإيرانية، يمكن أن تصرف نظر الولايات المتحدة عن تقليص وجودها في الخليج.
ولتجنب مواجهة مع دول مجلس التعاون الخليجي، يبقى أفضل رد هو فتح حوار مع إيران، التي ستبقى ضعيفة داخلياً.
وهذا هو النهج الذي تتبناه كل من الكويت وسلطنة عمان اللتين تتمتعان بعلاقات هادئة نسبياً مع إيران. وما يبدو أيضاً أنه يحصل في الوقت الراهن، وكأنه بداية ذوبان الجليد بين الجمهورية الإيرانية وجيرانها الخليجيين. لكنه ذوبان جليد هش: فالوصول إلى طريق مسدود في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني خطر على الاستقرار الإقليمي، كما أن توجيه ضربة إسرائيلية لطهران، من شأنه أن يخاطر بالفعل، بتدمير هذا التقدم الخجول، ما يفتح الطريق لاندلاع حريق هائل.