أميركا... وبورصة الدم
الأمريكيين أصدقاء مهمين لنا وحلفاء تربطنا بهم مصالح استراتيجية قوية ، وهذا يضاعف علينا المسؤولية في ضرورة مصارحتهم، وتقديم الصدق على المصلحة الخاصة وتغليب الحق على المنفعة الضيقة. خصوصا ونحن نرى التناقض في تعاملهم مع الشعوب رغم ثبات شعاراتهم الداعمة للحريات وحقوق الانسان.
جريمة اغتيال الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة جددت الكشف عن الموازين المختلة للولايات المتحدة في المنطقة، وسياستها في الكيل بمكيال بعيد جدا عن العدل وميزانه المستقيم.
تواصل الولايات المتحدة من خلال خطابها الرسمي، ووسائل الإعلام التابعة لها وكذلك العديد من المؤسسات التي يفترض بها أن تتمتع باستقلالية تحريرية، غض الطرف عن الفظائع التي يرتكبها (المستعمرون الاستيطانيون) ضد الفلسطينيين. ليس هذا فحسب، بل إنها الضامن لهم بالإفلات الدائم والغير مشروط من أي عقاب قد يطالهم مهما عظمت جرائمهم .
نعم، هناك تصريحات أمريكية استثنائية تبدي تعاطفا واضحا مع القتيلة المغدور بها.. ولكن هذه التصريحات وحدها لا تكفي مالم تكن مقرونة بأفعال حقيقية من الادارة الامريكية تجبر إسرائيل على تغيير سلوكها العدواني وغير الاخلاقي. فالتصريحات الأمريكية اقرب لما يسمى sugarcoating أي (تغليف جميل) لا اكثر، فهي تصريحات تخلو من أي تأثير حقيقي على أرض الواقع وخصوصا لدى المواطن العربي الواعي والذكي.
منذ عقود والولايات المتحدة تعاني من تنامي الفجوة بينها وبين شعوب المنطقة العربية بسبب هذه السياسة تحديدًا، والتي لا يبدو أنها تتغير بتغير الإدارات الأمريكية المختلفة والرؤساء المتعاقبين، ورغم وجود صراع وتباين شديد ومستمر في التوجهات والسياسات بين الجمهوريين والديمقراطيين الا انهم يتفقون دائما في أسلوب التعاطي مع قضايانا المتعلقة بإسرائيل.
تتساءل الولايات المتحدة باستغراب بعيد عن المنطق، كيف
تستمر نجاحات منافسيها بالتقارب مع شعوب المنطقة فيما تفشل هي في ذلك؟!
شخصيا، صرحت لكثير من المسؤولين الأمريكيين خلال عدة لقاءات جمعتني بهم بأن تأثير الولايات المتحدة في المنطقة سيقل وسيصعب عليها استقطاب اهتمام جيل الشباب العربي الديناميكي، طالما تستمر الولايات المتحدة في دعمها الثابت لإسرائيل. وعليها أن لا تستغرب من صعود نجم الصين في الشارع العربي، صعودا عفويا وبقبول كبير.
أليس مستغربا أن تقف الولايات المتحدة بكل ما أوتيت من قوة عسكرية وسياسية واقتصادية واستخباراتية ضد الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي يسميها الروس بالمناسبة "عملية عسكرية خاصة" في وقت تغض فيه الطرف عن "عمليات عسكرية خاصة" مشابهة تقوم بها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية ليل نهار ولعقود طويلة !!
إذا أرادت الولايات المتحدة التقرب من قلوب وعقول شباب المنطقة والتفوق على خصومها فعليها أن تكون صادقة في تعاطيها مع الجميع، وأن تعلي من قيم احترام حقوق الإنسان وأن تسير في اتجاه تطبيق القوانين الدولية بدون استثناء، خصوصا مع ما يحدث في دولة الفصل العنصري- إسرائيل- وبغض النظر عن أي مكسب أو خسارة سياسية. فمصداقية أمريكا تكاد تتلاشى بسبب مصالحها المتصورة مع الكيان الصهيوني. ولن يجديها نفعا رعايتها لإقامة علاقات تطبيع باردة بين حكومات عربية وإسرائيل، في وقت ترى فيه شعوب المنطقة وشعوب هذه الدول المطبعة أيضا- وإن كانوا محرومين من التعبير العلني عن آرائهم- أن عدوها الأول كان ولايزال هو إسرائيل، وأن ما تقوم به من تهويد للقدس ومحو لحق العودة للفلسطينيين وتوسع في الاستيطان، جريمة لا تغتفر.
لا نبالغ إن قلنا إن الولايات المتحدة ومعها هذه
الحكومات العربية المطبعة ستدرك لاحقا فداحة التطبيع الشكلي الهزيل كخيار
استراتيجي، وقد تتحمل هذه الدول كلفه عالية مستقبلا مع كل جرم جديد ترتكبه إسرائيل.
فموجات التطبيع بالمنطقة هي مجرد اتفاقات ورقية فرضت بمعزل تام عن قناعات الشعوب. ولذلك لم نجد حتى مع أوائل الدول المُطبِّعة مع إسرائيل أي تغير حقيقي بقبولهم شعبيا رغم عقود من التطبيع الصوري. فإسرائيل كانت ولازالت عدو غاصب لأرض مستقلة. ولا يكاد يختلف أي عربي حول حقيقة مشاركة ومباركة امريكا لكل أفعال إسرائيل.
ختاما، أوضحت الأزمة الأوكرانية أن الولايات المتحدة
تقدر قيمة دماء البشر بشكل مختلف. فوزن الدم الأوكراني يختلف كثيرا عن قيمة الدم
الفلسطيني، كما يبدو بأن جرائم روسيا ضد ابرياء عزّل وإن تطابقت مع ذات الجرائم
التي ترتكبها اسرائيل، فهي حرام على الأولى وحلال على الثانية.
الإرهاب الاسرائيلي هو حجر العثرة والعصى بالدولاب أمام أي فرصة لتحسين صورة أمريكا بالعالم العربي، لأنه ارهاب همجي ووحشي لا يمكن تبريره ويجب أن يقابله رفض عالمي دون مواربة ودون تمييز يبدأ بالولايات المتحدة أولًا، فالمعايير الإنسانية الأساسية غير قابلة للتجزئة.