هاني فندقلي: الديون الأميركية تقترب من المنطقة الحمراء.. والحلول ما زالت بعيدة!
استعرض مركز «ريكونسنس» للبحوث والدراسات ملف مفاوضات الديون الأميركية، وذلك في حوار مطول مع خبير الاقتصاد وعضو اللجنة الاستشارية التابعة للخارجية الأميركية د.هاني فندقلي، والحاصل على الدكتوراه بالعلوم من «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا»، ودرجة شرف اليسايلاند من الكونغرس الأميركي. وخلال الحوار، أكد فندقلي على أن السياسة الاقتصادية والمالية في الولايات المتحدة مختلة بشكل كامل، وأن المسار الوحيد لتجنب الانهيار هو تعديل دستوري لا تستطيع البيئة السياسية الأميركية القيام به، مشددا في الوقت ذاته على أن مستوى ديون الولايات المتحدة يقترب بسرعة من المنطقة الحمراء، فالأرقام مقلقة والحلول بعيدة المنال.
ولفت إلى أن المواجهة بين الولايات المتحدة والصين قد تجبر الدول على اختيار أحد الجانبين وزيادة احتمال نشوب صراعات مدمرة، مشيرا إلى أن الحل الوحيد الذي تستسيغه النخبة السياسية السماح للتضخم بالارتفاع بمعدل أسرع.. وفيما يلي التفاصيل:
ما مدى خطورة معالجة وضع الميزانية الفيدرالية الأميركية والأسواق العالمية؟
٭ إن وضع الميزانية الأميركية خطير جدا ومعقد بشكل متزايد مما يعكس الانشقاقات السياسية والأيديولوجية العميقة داخل الولايات المتحدة وجعل السياسة الاقتصادية والمالية مختلة بشكل كامل.
بحلول العام المالي الأميركي 2001 (الذي يمتد من 1 أكتوبر إلى 30 سبتمبر من كل عام)، أجبرت حربا أفغانستان والعراق الحكومة الفيدرالية على التخلي عن كل ادعاءات الكشف أو حتى تقدير تكلفة الحروب. وبدلا من ذلك قدمت «قرار الموازنة المستمرة» وهو وسيلة غامضة للتحايل على الموازنة المؤقتة بناء على السنوات السابقة، والتي يمكن للحكومة انتهاكها متى شاءت. وفي إطار عملية الموازنة، يتظاهر كل من الإدارة والكونغرس بأنهما ينجزان مهامهما الدستورية. واستمرت هذه المسرحية لمدة 20 عاما، حيث لم يكن لدى أكبر اقتصاد في العالم ميزانية رسمية.
هل الولايات المتحدة لا تمتلك ميزانية رسمية؟
٭ نعم، وفي غياب ميزانية رسمية، يستمر الإنفاق بلا هوادة، حيث يطلب من الكونغرس فقط الموافقة على سقف جديد للميزانية كل عام تقريبا للسماح للحكومة الفيدرالية بالعمل ودفع الفائدة على ديونها.
وفي 12 أكتوبر 2021 وافق مجلس النواب على إجراء لسد الفجوة في اللحظة الأخيرة لتمديد سقف الدين إلى 28.5 تريليون دولار، ما يكفي بالكاد لتمويل الحكومة لمدة شهرين، وستعاد الكرة في أوائل ديسمبر عندما تطفو اللعبة السياسية المتمثلة في المزايدة على السطح. هناك خطر من أن يؤدي المأزق السياسي في يوم من الأيام إلى انهيار كارثي يؤدي إلى التخلف عن سداد ديون الولايات المتحدة والالتزامات ودفع الرواتب والبرامج الاجتماعية والطبية.
كما أن التخلف عن السداد له آثار سلبية خطيرة على الأسواق المحلية والدولية، والأهم من ذلك، على الدولار الأميركي باعتباره عملة احتياطي مهيمنة.
هل حدثت مثل هذه المواقف من قبل في الولايات المتحدة؟
٭ نعم ولسوء الحظ، حدث هذا كثيرا منذ أن تبنى الكونغرس في عام 1917 مفهوم سقف الديون. والغرض من هذا السماح للحكومة الفيدرالية بالاقتراض دون الاضطرار إلى الرجوع إلى الكونغرس ولكن مع الحفاظ على إشرافه العام على الميزانية. وفي القرن الماضي، تم رفع سقف الديون ما يقرب من 80 مرة خلال الخمسين سنة الماضية.
لكن عملية رفع سقف الديون أصبحت مثيرة للجدل، وأدت إلى سلسلة من الأزمات ابتداء من عام 1995 عندما اضطرت الحكومة إلى الإغلاق لمدة ثلاثة أسابيع، تلاها المزيد من الأزمات والإغلاق في 2018،2013،2011 و2019.
ما الحلول الممكنة وماذا يتطلب تنفيذها؟
٭ لسوء الحظ، أصبحت هذه مشكلة مستعصية، متأصلة بعمق في دستور النظام الأميركي، حيث يتمتع الكونجرس بـ «سلطة الخزينة» وخرج الدين عن السيطرة.
والمسار الوحيد لتجنبه هو التعديل الدستوري الذي يكاد يكون مستحيلا، ولا توجد حلول مجدية على المدى القصير. ومع ذلك، هناك ثلاثة متطلبات لإدارة عبء الديون: نمو اقتصادي أسرع بكثير، وضرائب أعلى بشكل ملحوظ، أو خفض الإنفاق بشكل حاد.
إن رفع الضرائب بشكل كبير سيكون تحديا في مناخ احتراق سياسي وفي ظل عدم الاستقرار الاقتصادي.
ويعد خفض الإنفاق مستحيلا تقريبا نظرا لأن الإنفاق التقديري يستهلك أقل من 30% من إجمالي الميزانية الفيدرالية البالغة 1.5 تريليون دولار ونصفها دفاعي. الإنفاق غير التقديري يمتص الآن 62% من الميزانية (29% في سنة 1969) بضمنها 48% للضمان الاجتماعي والرعاية الصحية (19% في سنة 1969)، و8% لدفع الفوائد على الديون.
هناك مجال أو احتمال ضئيل لتقليل الإنفاق لتحقيق التوازن في الميزانية، حيث من المرجح أن يسود الحبر الأحمر خلال العقود القليلة القادمة.
التكلفة الهائلة للرعاية الطبية لعدة ملايين من قدامى المحاربين في حربي أفغانستان والعراق وكبار السن، والتي تقدر بنحو 4-6 تريليونات دولار على مدى العقدين المقبلين، ستبقى على تكلفة برامج شبكات الضمان الاجتماعي عند مستويات مرتفعة تقريبا إلى أجل غير مسمى. والحل الوحيد الذي يمكن تصوره والذي تستسيغه النخبة السياسية على المدى القريب هو السماح للتضخم بالارتفاع بمعدل أسرع.
من خلال تضخيم طريقنا للخروج من هذه المعضلة، سينكمش كل من الإنفاق الحقيقي والقيمة الحقيقية للديون، ما يوفر تخفيفا متواضعا في المشاكل قصيرة الأجل، ولكن من المحتمل أن يخلق المزيد من المشاكل على المدى الطويل.
تم تبني هذا الحل في منتصف السبعينيات بعد نهاية حرب فيتنام التي أدت إلى سلسلة من الأزمات الاقتصادية وإلى انهيار نظام بريتون وودز، والذي كان ساري المفعول منذ منتصف الأربعينيات، حيث تم تثبيت الدولار الأميركي. وتم التخلي عن قابلية التحويل إلى ذهب، وفي النهاية تم تخفيض كبير لقيمة الدولار الأميركي وإعادة الاصطفاف مقابل الين الياباني والعملات الأوروبية الرئيسية (باستثناء المملكة المتحدة). ومن الممكن أن يعيد التاريخ نفسه في الاقتصاد العالمي بعد كوفيد-19.
من الذي قد يكسب أو يخسر من هذا الأمر؟
٭ لا يوجد رابحون رئيسيون من هذه الأزمة، فالأمر نسبي فقط، ونظرا لأن معظم الأزمات المالية على مر القرون تنشأ من الديون المفرطة، فإن عدم اليقين بشأن التخلف عن السداد العام سيؤدي الى خلق ضغوط في أسواق الائتمان الخاصة الأوسع نطاقا والتي يمكن أن تتزايد لتصبح أزمة من نوع 2017.
وستؤدي دورة التضخم والتخفيض التنافسي لقيمة العملة إلى تقويض البنوك والمؤسسات المالية مع احتمال ارتفاع حالات التخلف عن السداد من قبل المقترضين الضعفاء ما يؤدي إلى الحد من الإقراض والاستثمارات.
وسيؤثر عدم اليقين بشأن العملة واستقرار أسواق رأس المال على البلدان النامية التي ستواجه صعوبة في الحصول على تمويل ديونها وكذلك تقلص الطلب على منتجاتها.
ويمكن أن تؤدي احتمالات ارتفاع التضخم إلى تثبيط المدخرات وتقليل تدفق هذه المدخرات إلى الاستثمارات الإنتاجية.
ويمكن أن تؤدي المواجهة السياسية الحالية بين الولايات المتحدة والصين إلى تعميق الانقسامات في الاقتصاد العالمي، ما يجبر الدول على اختيار أحد الجانبين ويؤدي إلى تفاقم التوترات الجيوسياسية وزيادة احتمالية نشوب صراعات عرضية ولكنها مدمرة.
وعادة ما تصيب الأزمات الاقتصادية الفقراء أكثر من غيرها، ما يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة الاقتصادية. قد يكون هناك رابحون على الهامش كما هو الحال في معظم الأزمات، بما في ذلك المقترضون الكبار الذين سيدفعون أموالهم ذات القيمة المنخفضة، وقد يكون هناك بعض الرابحين الجيوسياسيين، مثل الصين، لكن ديناميكيات أي أزمة غالبا ما تؤدي إلى عواقب غير مقصودة والتي يصعب التنبؤ بها، لذلك لا يوجد سبب للاحتفال المبكر.
هل نبالغ إذا قلنا إن الوضع الحالي شديد الخطورة؟
٭ لا! إنها فعلا قنبلة موقوتة. لقد ارتبطت كل أزمة مالية نظامية في التاريخ بالديون والمديونية المفرطة، بلغ الدّين الأميركي 28.3 تريليون دولار في 30 سبتمبر 2021، أو 7.5 أضعاف قيمته الحقيقية في حين أن الفائدة على الديون لا تزال منخفضة نسبيا وثابتة عند حوالي 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي، بسبب أسعار الفائدة الحقيقية المنخفضة بشكل مصطنع، ومعظمها سلبي على مدى العقد الماضي. كان ارتفاعا متوقعا في الأسعار على مدى السنوات المقبلة، كما أعلن الاحتياطي الفيدرالي في سبتمبر 2021، ويمكن أن تبدأ في الدخول في الإنفاق الإلزامي والعجز المتزايد.
وفي الوقت نفسه، أدت أسعار الفائدة المنخفضة والخوف من التضخم إلى إطلاق العنان لحالة اقتراض أدت إلى ارتفاع ديون الأسر الخاصة (المستهلك، والرهن العقاري، وديون الطلاب) إلى مستوى قياسي بلغ 16 تريليون دولار، في حين تجاوز ديون الشركات غير المالية رقما قياسيا قدره 12 تريليون دولار. وسيكون سداد وخدمة هذا الجبل من الديون في بيئة من العجز المزدوج في المالية العامة والحساب الجاري مهمة شاقة.
ما المطلوب إذا برأيك؟
٭ يتطلب هذا الأمر إجراءات صارمة لا تستطيع البيئة السياسية الأميركية الحالية إنتاجها، وخلافا لذلك، فإن حواجز الحماية غائبة في الولايات المتحدة. على الرغم من أن الدين الأميركي مقوم بالدولار الأميركي، إلا أن البنوك المركزية تحتفظ بربعها أو أكثر من 7 تريليونات دولار كعملة احتياطية (15% منها تحتفظ بها الصين وحدها).
ويمكن أن يؤدي التخلف عن السداد في الولايات المتحدة، بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال التضخم، إلى إحداث موجات صدمة في جميع أنحاء الأسواق العالمية، ما يؤدي إلى تعطيل التجارة والتمويل والاستثمارات، وطالما أن الدولار الأميركي هو أداة رئيسية للتجارة والاستثمار، فإن خطر العدوى مرتفع.
ندرة خيارات الخروج تخلق خيار هوبسون للولايات المتحدة. وللأسف، فإن العديد من المؤشرات المالية الكلية والجزئية لديون الولايات المتحدة، تقترب بسرعة من المنطقة الحمراء، فالأرقام مقلقة، والاتجاهات مقلقة، والحلول بعيد المنال.